فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (78):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [78].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي: لتقف على ما وفينا لهم من وعد النصر إياهم في الدنيا: {وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} أي: لمكان الطول، مع أن في نبئهم ما يشاكل نبأ المذكورين، والشيء يعتبر بشكله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بأمره. وهذا رد لمقترحهم وتعنتهم في طلب ما قص عنهم من آية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الآية، بأن الإتيان بذلك مرده مشيئة الله تعالى وإرادته به، وقد شاء أن تكون الآية العظمى تنزيله، الأكبر من كل آية، والأعظم من كل خارقة. فهو خير الآيات، وأحسنها، وأقوم المعجزات، وأمتنها. كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51]، {فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ} أي: عند عدم الإيمان بالآية المقترحة، بعد إتيانها: {قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي: من المؤاخذة، بعد تقرير الحجة المقترحة لهم: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي: في دعواهم الشريك، وافترائهم الكذب.

.تفسير الآيات (79- 82):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [79- 82].
{اللَّهُ} أي: الذي لا تصلح الألوهية إلا له: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} أي: مسخرة: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من الجلود، والأوبار، والأصواف: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي: بالمسافرة عليها: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} أي: في طريق البحر: {تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي: دلائله الدالة على فرط رحمته، وكمال قدرته: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ} أي: من الحصون، والقصور، والمباني، والعَدد، والعُدد: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: مما لا يدفع به العذاب الأرضي، ولا السماوي.

.تفسير الآيات (83- 85):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [83- 85].
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} أي: الخالي عن نور الهداية والوحي، ورضوا بها عن قبول هداية الرسل، ومعارفهم، واستهزأوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به، في جنب ما عندهم من العلم الوهمي: {وَحَاقَ بِهِم} أي: من عذاب الله: {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} أي: جزاؤه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي: مضت في خلقه، أن لا يقبل توبة، ولا إيماناً في تلك الحال: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} أي: وهلك، عند مجيء بأسه تعالى، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم، ففاتتهم سعادة الأبد، والعيش الرغد.
نسأله تعالى المعافاة من غضبه وعقابه، والموافاة مع زمرة أحبابه. آمين.

.سورة فصلت:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

القول في تأويل قوله تعالى: {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [1- 2].
{حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال أبو السعود: إن جعل: {حم} اسماً للسورة، فهو إما خبر مبتدأ محذوف، وهو الأظهر، أو مبتدأ خبره: {تَنزِيلٌ} وهو على الأول خبر بعد خبر. وخبر لمبتدأ محذوف، إن جعل مسروداً على نمط التعديد. وقوله تعالى: {مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} متعلق به، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية، بالفخامة الإضافية. أو خبر آخر. أو: {تَنزِيلٌ} مبتدأ لتخصصه بالصفة، خبره: [: {كِتَاْبٌ فُصِّلَتْ}].

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عربيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [3].
{كِتَابٌ} وهو على الوجوه الأول بدل منه، أو خبر آخر، أو خبر لمحذوف. ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي: بُيِّنت بالاشتمال على جميع المطالب الدينية، مع الدلائل العقلية: {قُرْآناً عربيًّا} أي: بلسان عربي يتيسر فيه من جميع الفوائد ما لا يتيسر في غيره. وانتصاب: {قُرْآناً} على المدح، أو الحالية من: {كِتَابٌ} لتخصصه بالصفة، أو من: {آيَاتُهُ}: {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: مقداره ومعانيه، أو لأهل العلم، والنظر.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [4].
{بَشِيراً} أي: للعاملين به، الناظرين فيه، والمستخرجين منه، بالنعيم المقيم: {وَنَذِيراً} أي: للمعرضين عنه بخلود الأبد في نار جهنم: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} أي: أكثر هؤلاء القوم، الذين أنزل هذا القرآن بشيراً ونذيراً لهم، فلم يتدبروه: {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي: لا يصنعون له، عتوّاً واستكباراً.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [5].
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي: أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيء مما تدعونا إليه، من التوحيد وتصديق ما في هذا القرآن من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي: صمم، لا نسمع ذلك، استثقالاً له وكراهية: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي: فلا تواصل ولا تلاقي على ما ندعي إليه: {فَاعْمَلْ} أي: على ما تدعو إليه، وانصب له: {إِنَّنَا عَامِلُونَ} أي: على ما ألفينا عليه آباءنا.

.تفسير الآيات (6- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [6- 8].
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أي: بالتوحيد، وإخلاص العبادة، من غير انحراف إلى الباطل، والسبل المتفرقة: {وَاسْتَغْفِرُوهُ} أي: بالتوبة من الشرك: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: لا يزكون أنفسهم. بطاعة الله، أو لا ينفقون من أموالهم زكاتها. وهذا ما رجحه ابن جرير، ذهاباً إلى أن ذلك هو الأشر من معنى الزكاة. لاسيما مع ضميمة الإيتاء.
وفيه إشارة إلى أن من أخص صفات الكفار هو منع الزكاة، ليحذر المؤمنون من ارتكابه. وعن قتادة: إن الزكاة قنطرة الإسلام. فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك. قال ابن جرير: وقد كان أهل الردة بعد نبي الله، قالوا: أما الصلاة فنصلي. وأما الزكاة، فو الله! لا تُغصَب أموالنا. قال فقال أبو بكر: والله! لا أفرق بين شيء جمع الله بينه. والله! لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله، لقاتلناهم عليه: {وَهُم بِالْآخِرَةِ} أي: بإحيائهم بعد مماتهم للمجازاة: {هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: عليهم، أو غير منقوص، أو غير منقطع، أو غير محسوب.

.تفسير الآيات (9- 10):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} [9- 10].
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} أي: في مقدارهما. وعلمهم بصلة الموصول، أما لما تلقوه خلفاً عن سلف، فاستفاض بينهم. أو لما سمعوه من الكتب السافلة، كالتوراة، فأذعنت بذلك نفوسهم، حتى صار معهوداً لها: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} أي: أكفاء: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]: {ذَلِكَ} أي: الذي خلق الأرض في يومين: {رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالاً ثوابت: {مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} أي: أكثر خيرها: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} أي: مستوية بالامتزاج والاعتدال، للطالبين للأقوات والمعايش، أي: قدرها لهم، أو لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض، وجعل فيها الرواسي والبركة، وتقدير الأقوات. فحدّه، كما أخبر تعالى، وأنه أربعة أيام.

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [11].
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي: قصد إلى إيجادهما. وثم، للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه، واختلافهما في الجهة والجوهر، لا للتراخي في الزمان؛ إذ لازمان هناك. قاله القاشاني.
وقال ابن جرير: أي: ثم ارتفع إلى السماء، أي: بلا تكليف ولا تمثيل: {وَهِيَ دُخَانٌ} قال القاشاني: أي: جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية. وقال القاضي: دخان أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها، أو الأجزاء المصغرة التي ركبت منها، وأصله للرازي حيث قال: لما خلق تعالى الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء، كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سماوات، وكواكب، وشمساً، وقمراً، وأحدث صفة الضوء فيها، فحينئذ صارت مستنيرة. فثبت أن تلك الأجزاء، حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات، والشمس، والقمر، كانت مظلمة. فصح تسميتها بالدخان؛ لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة، غير متواصلة، عديمة النور. ثم قال: فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.
وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية: {وَهِيَ دُخَانٌ}: أي: ذرات، أي: غازات أي: سديم. ثم تجاذبت كما يجتمع السحاب فصارت كتلة واحدة. مصداقاً لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30]. أي: كتلة واحدة، فدارت ثم تقطعت، وتفصلت بالقوة الدافعة، فتكونت الأرض والسماوات، تصديقاً لقوله تعالى: {فَفَتَقْنَاهُمَا} أي: فصلناهما، فصارتا كرات من الماء في يومين، أي: ألفي سنة. لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء. أي: كان ملكه وسلطانه على الماء، والله أعلم. انتهى والله أعلم.
{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} قال القاشاني: أي: تعلق أمره وإرادته بإيجادهما، فوجدتا في الحال معاً. كالمأمور المطيع، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله. وهو من باب التمثيل؛ إذ لا قول ثمة. انتهى.
وقال ابن جرير: أي: قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس، والقمر، والنجوم. وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار، والثمار، والنبات، وتشققي عن الأنهار: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي: جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك، لا نعصي أمرك. انتهى. يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز. إما بالاستعارة المكنية. كما تقول: نطقت الحال. فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به، وينسب إليه. وإما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما، في إرادة تكوينهما وإيجادهما، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد.
وقد رد غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزاً ونطقاً على ظاهر أمثال هذه النصوص، منهم ابن حزم. قال في الفصل: وأما قوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر، والحلق، والحنك، واللسان، والشفتين، والأضراس، بهواء يصل إلى آذان السامع، فيفهم به مرادات القائل. فإذ لا شك في هذا، فلكل من لا لسان له، ولا شفتين، ولا أضراس، ولا حنك، ولا حلق، فلا يكون منه القول المعهود منا. هذا مما لا يشك فيه ذو عقل. فإذا هذا هكذا كما قلنا بالعيان، فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا. لكنه معنى آخر. فإذ هذا كما ذكرنا، فبالضرورة صح أن معنى قوله تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل وتصريفه لهما. انتهى.
وكذا الحال في: {أَتَيْنَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} فإنهما لما نزلا... وهما من الجمادات- منزلة العقلاء، إذ أُمرا وخوطبا على طريق المكنية، أو التمثيلية، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحاً. وهما مؤولان بطائع وكاره. لأن المصدر لا يقع حالاً بدون ذلك، ويجوز كونهما مفعولاً مطلقاً. وإنما قال: {طَائِعِينَ} بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور. وكان مقتضى الظاهر طائعات، أو طائعتين نظراً إلى الخطاب، والإجابة، والوصف بالطوع، والكره.

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [12].
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي: أحكمهن بإزالة رخاوة الدخان. قال المهايمي ولم يجعل لمادتها يوماً؛ لأنها كمادة الأرض. فدخلت في يومها: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} أي: ما أمر به فيها، ودبره من الملائكة، والخلق الذي فيها، وما لا يعلم: {وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} فإنها كالسقف المرفوع المزين بمصابيح معلقة به، ما يدعو إلى الاستدلال بها على قدرة صانعها وحكمته: {وَحِفْظاً} أي: من الشياطين أن تسترق أخبارها: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.